الخميس، ١٦ أبريل ٢٠٠٩

لماذا ايها الموت؟!

اخذها غفلة دون ان ندري ، لم يعطي لها او لنا انذارا مسبقا لكي نهيي انفسنا لتقبل الوضع الجديد ، كانت رقيقة بكل ماتحمله الكلمة ، حنونة ، خفيفة الظل ، جريئة ، كانت تملك خفة ظل تجذب كل من حولها اليها ، كانت قادرة علي تحويل المواقف بشكل غريب فهذا الشخص شديد الضيق والغيظ منها ببضع كلمات تخرج من فمها تجعله يستغرب منها ويثني علي قدرتها الهائلة علي تهدئته.. ، كان الأساتذة يطلقون عليها "الشعنونة" .
هذا هو الموت كما قال عنه الشاعر
لا أرفض الموت لكنني أسائله ..... هل ذقت ما أنت بالإنسان فاعله
تأتي بلا شبح تسقي بلا قدح ..... وكل باب – ومهما – أنت داخله

اختارها الموت في وقت كانت مليئة بالحيوية والنشاط والأحلام التي ركزت كل طاقتها لتحقيقها فكانت تعد لزواجها وكانت مشغولة بإتمام باقي جهازها .. كانت تعد كذلك لسيمنار الماجستير بعد زواجها مباشرة

تعرفت عليها علي احد الارصفة اثناء انتظاري لميكروباص يذهب بي من مدينة السادس من اكتوبر الي ميدان لبنان ، وجدتها تقف بجانبي وتقول لي :"انتي رايحة فين" ، استغربت في البداية وقلت لها :"انتي مين اولا وبعدين اقول ليكي" فرددت :"انا كنت من حوالي ساعة معاكي في الاجتماع .. يعني احنا زمايل .. هو انا قصيرة للدرجة دي علشان كدا انتي مشفتنيش" ، فضحكت وقلت لها :"موش تقولي كدا من الصبح .. اهلا وسهلا .. انا هبه.. وأنتي "
فقالت انا "أميرة ، وبيدلعوني يقولوا ليا ياميرة أو مرمور" .. رايحة فين في الشمس الجامدة دي خلصي" ، فقلت لها:" رايحة ميدان لبنان " فقالت :"طريقي تعالي اوصلك" ، فرفضت وشكرتها .

فقالت ليا :"لاتخافي موش هشربك حاجة اصفرا" ، فضحكت وقلت لها :"انتي اللي خافي ممكن اشربك حاجة اخضرا".
ركبت معها ، وجدتها شخصية محترمة جدا .. مثقفة .. خفيفة الظل ، لها حضور عالي جدا.. تخفي وراء خفة دمها وابتسامتها شخصية حكيمة جدا هادئة ، تحدثت معي في امور كثيرة وحكت لي عن اشياء كثيرة في حياتها ، استغربت في البداية لتحدثها معي في اشياء خاصة بها دون ان تعرفي جيدا .. فهذا اول لقاء .. واول كلام بينا

لاحظت ذلك فقالت وهي مبتسمة :"اكيد انتي مستغربة .. ازاي اتكلم معاكي بالشكل ده .. ودي اول مرة اقعد اتكلم معاكي اصلا "

فقلت لها :"اصلا .. انا قلت كدا برده "

فقالت :"احنا خلاص بقينا أصدقاء.. أنا حاسة أني أعرفك من زمان .. حب من أول نظرة زي مابيقولوا .. ولا عندك كلام غير ده .. ولو عندك غصبا عنك هنبقي اصدقاء .. احنا خلاص زمايل .. وفي نفس القسم .. وفي نفس المكتب كمان اصل مفيش الا اوضة واحدة لنا"

فضحكت جدا وقلت لها :"ماشي ياروميو .. يلا خليها عليا .. نتوكل علي الله .. وهفكر أصاحبك "

فقالت :"ماشي .. انا هخليكي تندمي علي عدم معرفتي من 10 سنين قبل كدا"

شدني اليها خفة ظلها .. اخذها علي الناس بسهولة صنفتها علي انها اجتماعية من الدرجة الاولي ، كانت دائما تقول ليا :"احترميني يابت .. ولاحظي اني اكبر منك" ، حيث كانت تكبرني بسنوات ولكني كنت اقول لها دائما :"والله انتي عيلة.. تصرفات عيال " .

تعودت عليها .. توافقت مواعيدنا سويا .. كان لايمر يوما الا ونكون علي اتصال لمعرفة اخر اخبار عملنا واخبارنا الاخري .. لازلت اتذكر كلماتها ردا علي كلام عم محمد عامل البوفيه ، عندما يسالنا :"تشربوا ايه يابنات" لترد سريعا :"شاي خفيف سكر زيادة وصلححححححححه.. ولو في كام سندوتش يبقي كلك ذوق"

أتذكر أخر يوم يجمعنا سويا معا انتظرتني في ميدان لبنان ثم بدأنا طريقنا إلي مكان عملنا ، تشاركنا سويا في أكل سندوتشاتنا وقضينا الطريق علي صوت فيروز التي كانت تعشقها ، وصلنا إلي هدفنا ، ذهب كل منا إلي عمله ، أنهيت محاضرتي الأولي سريعا ، ذهبت إليها كي نتناول الشاي سويا لم أجدها ، ذهبت إلي المدرج استأذنتها في الحضور ، لم تكن المحاضرة الأولي التي استمع إليها فيها ، شعرت باختلاف في نبرتها وطريقتها في التعامل مع طلابها – هكذا شعرت – وجدتها وهي ترد علي احد الطلاب علي خلفية مناقشة عن مستقبلهم القادم في ظل الظروف التي نعيشها لترد عليه وتقول :"ليه الإحباط والتشاؤم اللي انتوا فيه ده ، تفاؤلوا بالخير تجدوه ، لعل الأيام القادمة خير..الدنيا حلوة يا جماعة انتوا موش بتسمعوا نانسي ولا إيه "

بعد انتهاء المحاضرة علقت علي مقولتها هذه وقولت لها:" إيه الجمال ده يا عم افلاطون" لترد قائلة ، لا بجد ليه أحنا بننظر لكل حاجة بتشاؤم .......
أيدت كلامها وقلت لها الي الشاي دماغي صدعت منك ، تناولنا الشاي "خفيف سكر زيادة وصلحه " – كما كانت تقول – وتركتها الي محاضرتي واتفقنا علي ان نروح سويا عقب انتهائي

تاخرت عليها ، فإذا بي أجدها تطرق باب القاعة وتقول بوجهها الباسم وخفة دمها :"السلام عليكم .. ازيكم ياشباب اليوم وصحفي المستقبل " ، ثم توجه كلامها لي :"موش هنروح ولا ايه ياهانم .. خادمتك سعدية زهقت من انتظارك .. بلاش الضمير ده اليوم .. عايزة أروح" ، رديت عليها :"خمس دقائق ياسعدية وهخرج جهزي نفسك"

قضينا الطريق إلي منازلنا في حالة هيسترية من الضحك الشديد ، حيث كانت تحكي لي علي موقف حدث معها وسط تعبيراتها وخفة دمها لم نتمالك أنفسنا من كثرة الضحك وقفنا وأخذنا جانبا حتى نهدا .. وقبل دقائق من تركها اتفقنا علي اللقاء في نفس الميدان التي اعتادنا اللقاء فيه يوم الأربعاء.. لكن جاء الأربعاء وهي في عالم اخر..

وكان أخر حوار بيني وبينها هو ذلك الحوار الساخر كما اعتدنا ان نتحدث سويا ، وأنا أجهز نفسي للنزول من سيارتها

هي :"علي رنات وتليفونات"
انا :"لو افتكرتك .. أنتي عارفة المشغوليات والوزارة والرعية"
هي :"ماشي ياعم المهم ، موعدنا يوم الأربعاء "
أنا :"اوكي .. ودعواتك"
هي :"اتحيلي عليا شوية هو الدعاء ببلاش ولا إيه .. وعلي فكرة أن عيد ميلادي بعد بكرة أوعي تنسي الهدية "
أنا : عيد ميلاد .. هدية .. ولا أعرفك .. ثم دي بدعة
هي : بدعة بدعة .. موش هتنازل عن الهدية
أنا : اركني ياست .. وموش عايزة أشوفك تاني
هي : "ماشي .. بس أوعي تنسي تبعتي ليا جوباتي ودباديبي "
انا :"حاضر .. وأنا هسحب السفير بتاعي كمان من عندك"

لم أكن أتخيل ان هذه أخر مرة أراها فيها .. وهذا أخر حوار بينا .. وهذه أخر تعليقاتها لي .. وهذه أخر مرة اسمع صوتها .. أخر ابتسامة أراها علي وجهها .. لو كنت اعلم لما تركتها .. لأطلت الحديث معها .. فسبحان الله عالم الغيب..

جاء يوم الأربعاء .. لم تأت إلي العمل .. اتصلت عليها لأجد تليفونها لا يرد بعد محاولات كثيرة .. مر اليوم .. حاولت الاتصال في اليوم التالي ولكن نفس النتيجة .. جاء يوم السبت لم تأت أيضا وتليفونها لا يرد .. بعد محاولات عثرت علي تليفون منزلها من احدي الزميلات .. لترد علي أختها وتبلغني بالفاجعة وفاتها هي ووالدها في حادث سير" ، فسبحان الله العظيم .. ولا اعتراض علي قضائه

فرغم قصر مدة معرفتي بها والتي لم تتعدي الأربعة اشهر .. إلا أنني لم اعد أتخيل المكان بدونها .. فمعها تعرفنا علي العمل وعلي الزملاء .. وبخفة ظلها قضينا أيامنا .. وبكلماتها وحسها المرهف ورومانسيتها عشنا في مدينتها الفاضلة.. انتظر تليفونها اليومي آو حتى رنتها وأنا علي يقين بأنه لن يحدث .. لم اعد قادرة علي حذف رقمها .. لم اعد قادرة علي رؤية اسمها علي الماسنجر وأنا مدركة انه لن يضئ مرة أخري .. وان أتلقي تعليقاتها بخفة دمها وروحها المرحة .

لازالت العبارة التي كانت تتخذها شعارا لها ترن في أذني بصوتها فكانت دائما ما تردد عبارة الشاعر التركي ناظم حكمت التي تقول :"أجمل الأنهار لم نراها بعد .. أجمل الكتب لم نقراها بعد .. أجمل أيام حياتنا لم تأت بعد".

قد انوي كتابة بوست عنها .. وعن حكايتها الجميلة .. وعن شحنة التفاؤل والحب التي تحمله للآخرين .. ولكن شاء القدر أن يكون عن رحيلها ..

هذه إرادة الله .. قد نحزن .. تغلبنا دموعنا .. ولكن لابد الرضا بقضاء الله

فإلي رحمة الله يا أميرتي .. إلي جنة الخلد بإذن الله .. يا حبيبة قلبي.